المذياع الصغير يكذب

المذياع الصغير
—————
اعتاد المنمى امبارك ولد ابيجل الإقامة، خلال فصل الخريف، بقطيع كبير من البقر، بالقرب من بلدة تكماطين Tiguematine وبالتحديد عند بئر انيكاريت Nyegarit (اترارزه، جنوب غرب موريتانيا).
وفي بداية خريف سنة 1963، حسب ما أذكر، اتخذ والدي، الذي كان يدير متجرا صغيرا في روصو، قرارا بالذهاب بنا إلى الريف من أجل “العلاج بالحليب” أو ما يعرف “بلحسان’’ بالعامية.
كنا نعيش حينها في حي صغير من الصفيح في روصو، لم يعد موجودا اليوم ، يمتد بين مستشفى المدينة شرقًا ، والثكنة العسكرية غربًا، ومحطة الوقود الواقعة عند مدخل حي اسكال Escale جنوبا والسد الترابى القديم الذي يمر خلف المستشفى شمالا.
ظلت الألسنة الشريرة تطلق على هذه القطعة الصغيرة من الأرض، التي كانت تأوى حوالي ثلاثين أسرة، “كض الغبرة” أي قرية الغبار.
كنا مشغوفين بحب هذه البقعة الصغيرة لسبب بسيط هو أنها تقع بالقرب من مناطق الجذب الرئيسية في مدينة روصو.
كانت مخبزة بريير Barrière، حيث يمكن شراء الخبز الفرنسي المميز في الصباح الباكر، تقع على بعد أقل من ثلاثمائة متر، وسينما كيتا Keita، وهي عمارة صفراء ضخمة متاخمة لمقر فرقة الدرك، على مرمى حجر، ومؤسسات بوهاه وتيسسيرet Teisser Buhan وموريل أبروم Maurel et Prom ، وهي محلات تثير الفضول رغم تعثر نشاطها التجاري، غير بعيدة هي الأخرى.
وكان مرفأ العبارة الذي يعج بالحياة طوال النهار والشركات التي يديرها الديوري Diouri وعرفة Arafa والزاكي بوغالب Zaki Boughaleb قريبة جدًا.
وخلاصة الأمر أننا لم نكن نعير أي اهتمام لما يقوله الجميع بل كنا سعداء بوجود حينا وسط المدينة إذ كان كض الغبرة يتميز، رغم بساطة مساكنه ومحدودية دخل سكانه، بتوسط منطقة غالبية أهلها من طبقة الأثرياء.
طار إخوتي وأخواتي فرحا عند الإعلان عن رحيلنا، إذ كان الذهاب إلى الريف يعني بالنسبة لنا، نحن الأطفال، التمتع بالحرية والاكتشاف والمغامرة.
كان سكان كض الغبرة، يخشون الأسوأ دواما، عند حلول النصف الأخير من شهر يوليو حين تهب الرياح الموسمية معلنة بداية نزول الأمطار الغزيرة، لأن أرضية الحي المنخفضة تغمرها المياه في الخريف.
وفي المساء، تقتحم القرية الصغيرة أسراب من البعوض المتعطش للدماء والحشرات ذات الفك السفلي المخيف وعدد لا يحصى من الضفادع، محولة حياة الساكنة إلى جحيم.
وفي الأسبوع الموالي وجدنا أنفسنا في انيكاريت، وسط مخيم كبير من البدو الرحل يضم قرابة خمسين خيمة من الشعر.
انتشرت صباحا في الأرجاء رائحة زكية منبعثة من العشب الطري الذي نبت إثر تساقط الأمطار الأولى ومن غابات الطلح المزهرة.
كانت خيمة امبارك، الرجل الذي تعاقد معه أبى من أجل إمدادنا يوميا “بمدين” من الحليب، أي ما يعادل حوالي ثمانية لترات، مبنية على مقربة من خيمتنا، على بعد أقل من ثلاثين متراً.
إنها خيمة كبيرة من الشعر يتوسط قمتها مربع أبيض مطرز بألوان بديعة.
استطعت، في الأيام الأولى من إقامتنا، مراقبة كل ما يجرى داخل هذه الخيمة وأن أسمع بوضوح أطراف الحديث التي كانت زوجة امبارك، أمويها، تتبادلها مع زوارها.
فعندما يحل الظلام، أي بعد صلاة المغرب بقليل، تقوم أمويها ببسط حصير كبير من تاشانت “Tachanett”، أمام خيمتها. ويصنع هذا النوع من الحصائر من حشائش combretaceae تنمو بالقرب من المستنقعات والبحيرات والأنهار في غرب اترارزاه وفي السهول الممتدة شمال سان لويس Saint Louis في السنغال.
وتقوم بعدها بوضع وسائد محشوة بقش شمامهChemama الناعم العطر والمعروف بأطكك بالعامية”، وهو عبارة عن جذور نبتة مائية اعتادت نساء المنطقة جمعها بعد تراجع مياه الفيضان.
وما ان تنتهى من ترتيب الفراش حتى يقوم الشيخ ورزك Werzeg، وهو راعي بقر سابق، يقيم عند أهل ابيجل منذ وفاة زوجته قبل سنوات، بتحضير مائدة الشاي.
يضع أواني الشاي على حافة الحصير حيث يوجد عادة قالب من السكر ملفوفً بعناية في غلافه الأصلي، ورقتين إحداهما زرقاء والأخرى بيضاء ثم يأتي بموقد مملوء بالجمر الملتهب تعلوه غلاية كبيرة محتدمة.
ويأتى بعد ذلك الحدث الأهم: يخرج امبارك ولد ابيجل بعناية فائقة، من صندوق خشبي، جهاز راديو ضخم ‘’كرير ‘’Curer مرصع باللونين الأبيض والذهبي ويسحب من حقيبة قماش بطارية زرقاء كبيرة من ماركة “Berrec”، علمت فيما بعد أنها كانت تستخدم لتزويد المذياع العملاق بالطاقة ثم يربط الجهاز بهوائي طويل antenne يعلق طرفه على غصن شجرة.
وما إن ينتهى من تجهيز الراديو حتى تقبل من جميع الجهات نحو خيمته مجموعات مبتهجة من النساء والرجال والأطفال.
وبما أننى لم أكن أعرف أحدا من هذا الحضور، اكتفيت خلال الأيام الأولى من مقامنا، بمراقبة تلك التجمعات الليلية من بعيد حول مذياع ولد ابيجل.
وجاءت الليلة التي عزمت فيها على الالتحاق بهذه الجموع فطلبت الإذن من زوجة أبي ولم يمض وقت طويل حتى وجدتنى جالسًا بين الزائرين.
وجدت صعوبة بالغة في تحمل نظرات الجمهور الخفية والمثيرة للريبة وكأن الحضور يتساءل: من أين أتى هذا الغلام حديثى حلاقة الرأس الذى تجرأ على الجلوس بالقرب من المذياع؟
ولحسن الحظ سرعان ما تحول انتباههم عن النظر إلي عندما ما بدأ تشغيل المذياع وعلت في الأرجاء نغمات أغنية شهيرة آنذاك، “أنا دهرا مان لاه في الدنيا أنسى عيناك” وتوالت بعدها مقاطع غنائية لفنانين كبار سيداتى ولد آب، أحمدو ولد الميداح، منينة بنت أعليه…
بدا أن الجمهور من حولي يسعد كثيرًا بالاستماع إلى هؤلاء الموسيقيين العظماء مما دفعنى إلى هز رأسى يمينا وشمالا حتى يتيقن الجميع أننى مولع بهذه النغمات ومتعود على سماعها رغم أننى لم أكن أفهم أدنى شيء من هذه الكلمات والمعزوفات التى تصم الآذان.
لم تكن الموسيقى والأخبار و”كيكوطات” الشهيرة (الكوميديا الإذاعية) ، التي كان يقدمها همام فال ومحمدن ولد سيد ابراهيم وباب ولد أنانه، مصدر إعجابى، بل كان مصدره الحقيقي امبارك ولد ابيجل، صاحب هذا المذياع الكبير.
لقد أعجبت كثيرا بصاحب هذه الآلة الرائعة، المنمى امبارك ولد ابيجل، بهذا الشخص الوحيد في حينا الذي يمتلك هذه الأعجوبة ويعرف تشغيلها بمهارة.
مضت أيام قبل أن أعلم بوجود اجتماعات ليلية أخرى تحصل حول مذياع صغير من نوع أيوا Aiwa يمتلكه أحد المنمين يدعى بلال.
كان هذا الأخير من المنمين الصغار وله قطيع متواضع يوفر الحليب لسبع عائلات تنتصب خيامها بجواره على مسافة غير بعيدة من حينا.
كان مذياع بلال، الذى حصل عليه قبل أسبوع من وصولنا إلى انيكاريت، صغير الحجم للغاية
مما جعل المترددين على خيمته في المساء يسعون عادة إلى الاقتراب قدر الإمكان من الجهاز لسماع البرامج بوضوح.
وكثيرا ما أدى تدافعهم إلى نشوب خصومات وتبادل للشتائم بين الحضور الجالس ومن يقف خلفه من الزوار.
ومع وجود هاذين المذياعين في بلدة انيكاريت، ظهر تنافس شديد وجفاء بين المجموعة التي تتابع ليلا مذياع امبارك العملاق وتلك المعتادة على متابعة مذياع بلال الصغير.
وبلغ التنافس أشده فأصبحت كل مجموعة تتباهى، كلما أتيحت لها الفرصة، بقوة وجودة مذياع صاحبها.
وفي إحدى الليالي، بينما كانت مجموعة ولد ابيجل تهم بالانصراف بعد أن انتهت من التمتع بالاستماع إلى المذياع الكبير، قالت امرأة، نسيت اسمها، إن رجلاً يدعى أحمد ولد محمد سيعود قريبًا من السنغال.
كان هذا النوع من الأخبار مهمًا جدًا في تلك الحقبة حيث اعتاد التجار العائدون من السنغال تقديم هدايا مختلفة لجميع العائلات المقيمة في أحيائهم.
وغالبا ما كانت هذه الهدايا تتكون من الملابس والسكر والشاي الأخضر والتبغ والمصابيح اليدوية والحناء والبسكويت والحلوى والأحذية البلاستيكية والشفرات والمرايا والإبر، الخ.
نهضت عجوز كانت جالسة بجواري وقالت للمرأة: من أين حصلت على الخبر المتعلق بعودة أحمد ولد محمد؟
قالت لها المرأة إن المدعو رباح سمعه البارحة في مذياع بلال.
رأى امبارك في مقولة المرأة نوعا من الاستخفاف بمذياعه العملاق فوقف وهو يمسك بيده إبريق الشاي الكبير المزخرف وتقدم قليلا إلى أن أصبح وجها لوجه مع صاحبة النبأ وقال لها بنبرة ملؤها السخرية:
“اسمعوا يا جماعة، تدعى هذه المرأة أن مذياع بلال أخبر بعودة وشيكة لأحمد ولد محمد من السنغال. لا تصدقوها، هذا كله مجرد كذبة.
نعم لم يرد هذا الخبر إطلاقا في مذياعي Curer، الذي يبلغ حجمه عشرة أضعاف حجم مذياع بلال.
فكيف لعاقل أن يتخيل أن بمقدور مذياع صغير بحجم راديو بلال نشر مثل هذا الخبر؟ هذا أمر لا يصدق ! إن المذاييع الصغيرة تكذب، احذروها “.
ارتبكت المرأة المسكينة وبدأت تتمتم وتطلب الصفح من امبارك موضحة أنها كانت مخطئة عندما صدقت خبرا صادرا عن مذياع صغير.
وانطلاقا من قناعتي العميقة بصدق امبارك ولد ابيجل، انضممت في اليوم الموالى للحادثة إلى مجموعة من الأطفال أصرت على فضح ما يبثه هذا المذياع الصغير من الأكاذيب.
فعندما يجن الظلام تتجمع عصابتنا في سرية كاملة خلف خيمة بلال.
وفور سماعنا لأي خبر، نصيح معا بصوت عالٍ: المذياع الصغير يكذب.
وكلما لم يعد باستطاعته تحمل سخريتنا، يمسك بلال المسكين بعصاه وينطلق وراءنا.
(ذكريات من الجنوب) كتب المقال وترجمه الى العربيةمحمد عبد الله بزيد
سنة2001