المناظرة الرائعة التي انهت فتنة القول بخلق القرأن

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمدلله نحمده ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له.

أما بعد…

فإنه من خلال اطلاعي على سيرة الإمام أحمد ابن حنبل في الكتب توقفت عند مناظرة أفحم فيها شيخ – مع الأسف الشديد لم يشتهر في التاريخ الإسلامي – رأس المعتزلة في فتنة خلق القرآن أحمد ابن أبي دؤاد.

الطرفان هما:

1) أبو عبدالرحمن عبدالله بن محمد الأذرمي – ممثلاً للسنة.
2) أحمد ابن أبي دؤاد – ممثلا للمعتزلة.
المناظرة كالتالي:
يقول المهتدي ابن الواثق: ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدراً من أيام الواثق، حتى أقدم أحمد ابن أبي دؤاد علينا شيخاً من أهل الشام من أهل أَذَنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيداً، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فأبلغ، فقال له الواثق: اجلس، فجلس. فقال له: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق وقال: ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، ما بك؟ فأذن في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول. قال: أفعل.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه بما قلت؟
قال: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله هل ستر شيئاً من الدين؟
قال: لا.
قال الشيخ: فدعا رسول الله إلى مقالتك هذه؟ ( يعني هل دعا إلى قولك هذا بخلق القرآن؟)
فسكت ابن أبي دؤاد.
قال الشيخ: تكلم.
فسكت المعتزلي.
فالتفت الشيخ إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله تعالى، حين أنزل القرآن على رسول الله، فقال: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”، هل كان الله تعالى صادقاً في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه حتى يقال بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
]فقال الشيخ: أجب يا أحمد.
فلم يجب.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله أم جهلها؟
[/color]قال ابن أبي دؤاد: علمها.
قال: فدعا إليها الناس؟
فسكت.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث.
هناك روايتان إحداهما تقول رسول الله وتذهب لأن رسول الله أمسك عنها والأخرى تقول أنه أكمل إلى الخلفاء الراشدين الأربعة.
فلنذهب للرواية الأخرى من أجل تناسب السياق مع المناظرة.
فقال الشيخ: هل علم الخلفاء الأربعة مقالتك أم لا؟
[color=”red”]فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموها.
فقال الشيخ: لم يعلمها الخلفاء الراشدون، فعلمتها أنت.
فرد ابن ابي دؤاد: بل علموها.
فقال الشيخ: هل دعوا الناس إليها؟ وقال: فاتسع لرسول الله أن علمها وأمسك عنها كما زعمت واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم أجمعين – أن يمسكوا عن مقالتك هذه. وما اتسع لك أنت؟
فأعرض الشيخ عن أبي دؤاد، وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لنا الإمساك عن هذه المقالة بما زعم هذا أن لم يتسع لرسول الله ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله والخلفاء الرشدون، فلا وسع الله علينا، وأمر بقطع قيد الشيخ، فلما قطعوا القيد وثب الأذرمي على القيود وأخذها من الحداد ولكن الحداد لم يسمح له.
فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في كمه. فقال الواثق: يا شيخ، ما جاذبت الحداد عليه؟
فقال الشيخ: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إن أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم – ابن أبي دؤاد – عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب، سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي؟ وبكى الشيخ وبكى الواثق وبكى الناس من حوله.
ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله، فقال الشيخ: والله يا أمير المؤمنين، لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله، إذ كنت رجلاً من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة.
فقال الشيخ: أن كانت ممكنة فعلت.
فقال الواثق: تقيم قبلنا، فننتفع بك وينتفع بك فتياننا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك، وأصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك.
فقال: يا أمير المؤمنين، لا تحل لي، وإن عني وذو مرة سوي.
فقال: سل حاجة.
فقال: أوتقضيها يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: تأذن أن يخلى لي السبيل إلى الثغر.
قال: قد أذنت لك.
فسلم وخرج.
وذهب الواثق إلى مجلس الخلوة واستلقى على ظهره وظل يردد: أفلا وسعك ما وسعهم؟
قال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة، وأظن الواثق رجع عنها منذ ذلك الوقت.
المصدر من كتاب مناقب الإمام أحمد ابن حنبل لابن الجوزي، ص475-481

وأقول بالختام، إن في التاريخ لعبرة لمن تدبره وتمعن في أحداثه، وإني لا أجد موضعاً لمن يهمله سوى الساذج.
وفقكم الله جميعاً ووفقني لما يحب ويرضى
زر الذهاب إلى الأعلى